💢 منهجية الإمام الخميني في الفقه الاجتماعي (١)
[الخطاب الملقى في الندوة التي عقدها مؤسسة نشر الآثار للإمام الخميني قدس سره في قم تحت عنوان: "منهجية الإمام الخميني في الفقه الاجتماعي"].
إذا امتلك الفقيه في منهجه عنصرين أساسيَّين على الأقلّ، فلا شكَّ أنّه قادرٌ على إبداع فقهٍ اجتماعيٍّ، فعّالٍ، ونافعٍ. ورغم تعدّد عناصر المنهج الفقهيّ، إلّا أنّ هذين العنصرين يُعَدّان حجرَ الأساس، ومَنبَتًا لتوالُد العناصر الأخرى.
العنصر 1/. امتلاكُ النظريّة أو التصوّر الكلّيّ
المقصود هو أن تكون للفقيه نظريّةٌ أو على الأقلّ تصوّرٌ عامٌّ وشاملٌ عن الشريعة، بحيث يملك رؤيةً فلسفيّةً تتّسم بالشمول والدقّة إزاءها.
ومن المعلوم أنّ إحدى فروع الفلسفة المضافة في العلوم الإسلاميّة هي "فلسفةُ الشريعة"، التي تختلف عن "فلسفة الفقه". فالأولى تهدف إلى البحث الفلسفيّ حول ذات الشريعة، بينما تركّز الثانية على دراسة الفقه ومناهج الفقهاء، وإن كانت الشريعة مصدرًا لها.
إنّ فلسفة الشريعة هي بحثٌ فلسفيٌّ عن طبيعة الشريعة ذاتها، ومتى ما كان هذا البحث أعمقَ وأدقَّ وأكثرَ شموليّةً وتعدُّديّة، ازدادت أسس الاستنباط الفقهيّ صلابةً ورسوخًا وعقلانيّةً، ما يجعلها أقلَّ عرضةً للزلل أو الاضطراب.
إنّ هذا التوجّه ضرورةٌ لا غِنى عنها للحوزات العلميّة. فقبل أن نصير فقهاء، أو بالتزامن مع سعينا لنكون كذلك، ينبغي أن نصير فلاسفةَ الشريعة.
يجب أن نعرف الشريعة ونفهم ماهيّتها، خصائصها، غاياتها ومقاصدها، علاقات أجزائها بعضها ببعض، وعلاقتها بالإنسان والمجتمع، إلى جانب أسئلةٍ أخرى مهمّة.
إنّ امتلاك الفقيه لرؤيةٍ فلسفيّةٍ تجاه الشريعة يفتح له أبوابًا واسعةً نحو فهمٍ أعمق، ويُرسّخ له قاعدةً فكريّةً فلسفيّةً فعّالةً، تتماشى مع متطلّبات العصر وتحدّياته.
بقدر ما يستفيد فقهُنا من الرؤى الفلسفيّة حول الشريعة، يزداد عمقُه وتأثيرُه على عملية استنباطنا، وبفقدان هذه الرؤى، تتلقّى المنهجيّة الفقهيّة ضربةً قاصمة، إذ الفقه مرآةٌ تعكس جوهرَ الشريعة، ومسعاه استنباطُ أحكامها. لذلك، ينبغي لمنهجه أن يكون قادرًا على تحقيق هذا الدور الجليل للفقه.
والخلاصة، أنّ امتلاك النظرة الفلسفيّة أو النظريّات حيال الشريعة يعني أن نُلقِيَ قبل الدخول في ساحة الاستنباط نظرةً سابقةً على الشريعة، نرسم بها ملامحَها، نحدّد خصائصَها، غاياتِها وأهدافَها، ونُميّز بين أولويّاتها وأحكامها الأساسيّة، وذلك في إطارٍ عقلانيّ وفلسفيّ مُتكامِل. نسمّي هذه المرحلة "فلسفة الشريعة"، لأنّها ليست مقامَ الاستنباط لنُسمّيَه فقهًا، بل هي مقام النظر العقليّ والفلسفيّ إلى الشريعة، وهي الأساس الذي يُبنى عليه الاستنباط في مراحله التالية.
▪︎ثلاثة محاور أساسيّة في فلسفة الشريعة
هي ثلاث فصولٍ من الحكمة، كلّ فصلٍ منها بابٌ موصد، يُفتح على أسرار الشريعة وحقائقها:
المحور الأوّل: الفهم الفلسفيّ لعلاقة الإنسان الاجتماعيّ بالشريعة:
الشريعةُ تتعامل مع الإنسان ككائنٍ اجتماعيّ، والنظر في علاقة الشريعة بالإنسان من هذا المنظور يُلقي ضوءًا جديدًا. هذه النظرة تُضفي على الشريعة مكانةً جديدةً في حياة الإنسان الاجتماعية، وتفتح أبوابًا لفهمٍ فلسفيٍّ أعمق وأشمل.
المحور الثاني: الفهم الفلسفيّ لعلاقة الشريعة بالمجتمع:
الشريعةُ والمجتمعُ مرتبطان برباطٍ وثيقٍ وأصيل، وهذا الارتباط يُتيح مجالًا واسعًا للتنظير وبناء الأطر. فهمُ هذه العلاقة ضرورةٌ للتفكير الفلسفيّ، ومدخلٌ لإدراكٍ أعمق لطبيعة الشريعة وصلتها بالنُّظُم الاجتماعية. فالشريعةُ كالخطِّ الهندسيّ في بناء المجتمع، لكلّ زاويةٍ فيه رسالةٌ ولكلّ انحناءٍ مغزى.
المحور الثالث: دراسة علاقة الشريعة بغاياتها:
هل يمكن أن تكون الشريعة، التي أنزلها الله الحكيم لهداية البشر، خاليةً من الغايات؟ وهل يُعقل أن تكون أفعال الله بلا غاية؟ إنّ معرفة غايات الشريعة والتنظير من خلالها يجعل استنباطَ الأحكام أكثر دقّةً وغنىً وتماسكًا. ومن هذا المنظور، تنبثق نظريّة "مهمّات الشريعة"، التي تُصنّف الأحكام في مراتب منطقيّة؛ بعضها أساسيٌّ في المقدّمة، وبعضها فرعيٌّ في المؤخرة. هذه النظرة الغائيّة هي حاجةً عصريّة فحسب، إذ هي مصباحٌ للفهم الأعمق للشريعة، وأداةٌ لتقويم وتصحيح الاجتهاد الفقهيّ.
هي ثلاثة محاور، ثلاث طرق، ثلاث آفاق؛ كلّ محورٍ منها مشعلٌ في درب الفكر، وكلّها مفتاحٌ للولوج إلى أعماق فلسفة الشريعة.
العنصر 2/. الانطلاق:
حينما يخطو الفقيه في ميدان الاجتهاد، ألا يحتاج إلى مرتكزٍ صلبٍ ونظريّةٍ محكمةٍ متميّزة؟ فإنْ لم يكن له في البداية تلك الرؤى الفلسفيّة والنظريّات المحقَّقة حول الشريعة، فإنّ نقطة انطلاقه لن تكون سوى سلائق شخصيّةٍ أو أفكارٍ خامٍ غير متّسقة.
إنّ مثل هذا الانطلاق ليس إلّا فرضًا على النصوص، قد ينشأ عن تصوّراتٍ خاطئةٍ مُسبقة، ويُفضي إلى تحريف المعاني وإبعاد النصوص عن مراميها، حيث تُطمس الرؤية الصحيحة ويظهر التأويل السقيم.
كيف لفقيهٍ يفتقر إلى نظريّاتٍ علميّةٍ راسخةٍ ومنتقاةٍ أن ينتفع من النصوص التشريعيّة، والقواعد الأصوليّة، ومصادر الاجتهاد؟
إن لم يكن اجتهاده منطلقًا من نظريّاتٍ محقّقةٍ ومنقّحة، فإنّه لا محالة سيسقط في مسالك الزلل، ويجرّ النصوص إلى سوء الفهم وسوء التفسير.
ولكن إذا سبق الاستنباط تأسيسُ مبانٍ فلسفيّةٍ متينةٍ في شأن الشريعة، فإنّ هذه النظريّات تصبح منصّةً ينطلق منها الفقيهُ نحو نصوص التشريع وقواعد الأصول بخطًى ثابتةٍ وبصيرةٍ نيّرة. فإنّ النصّ لا يُفهم في الفراغ؛ إذ إنّ التصوّرات المسبقة أمرٌ محتومٌ لا مناص منه، والانطلاق ضرورةٌ لا سبيل إلى تجاهلها.
وصفوة القول: إمّا أن تنطلق من نظريّاتٍ فلسفيّةٍ محقّقةٍ حول الشريعة فتُقلّل بذلك من أخطائك، أو تنطلق من أوهامٍ وأفكارٍ غير ناضجةٍ فتغرق أحيانا اجتهادَك في متاهات الضياع.
وعلى الفقيه أن يُدرك أنّ التصوّرات المسبقة، شاء أم أبى، تؤثّر في تفسير النصوص. فإن كان انطلاقُه من نظريّاتٍ فلسفيّةٍ محكمةٍ، فإنّ اجتهاده يسير في طريقٍ مستقيمٍ وغايةٍ محدّدة، والنصوص تظهر له على وجهها الحقّ. تلك النظريّات بمثابة مشاعلٍ مضيئةٍ تكشف أمام الفقيه ملامح الشريعة، وأبعاد المجتمع، ومعالم التاريخ، وجوهر الإنسان، فتقيه من التيه في دروب الاجتهاد.
ستُقدّم متابعة هذه الخطابة في وقت لاحق انشاء الله تعالی
1_15001518336.mp3
26.79M
فايل صوتي
خارج فقه محیط زیست
(فقه آب)
یکشنبه ۲۷/ آبان/ ۱۴۰۳
👈 بیان اشکال سوم مبنی بر وجود روایات مانعه از بیع آب.
👈 بیان اینکه نزد اهل سنت نیز روایات مانعه از فروش آب وجود دارد و بیان اقوال آنها در ارتباط با فروش آب.
👈 بیان دیدگاه صاحب جواهر مبنی بر عدم تعارض بین روایات به دلیل قصور روایات مانعه از فروش آب و نقد این دیدگاه.
1_15232094158.docx
22.2K
مكتوب
خارج فقه محیط زیست
(فقه آب)
یکشنبه ۲۷/ آبان/ ۱۴۰۳
👈 بیان اشکال سوم مبنی بر وجود روایات مانعه از بیع آب.
👈 بیان اینکه نزد اهل سنت نیز روایات مانعه از فروش آب وجود دارد و بیان اقوال آنها در ارتباط با فروش آب.
👈 بیان دیدگاه صاحب جواهر مبنی بر عدم تعارض بین روایات به دلیل قصور روایات مانعه از فروش آب و نقد این دیدگاه.
1_15001535248.mp3
30.18M
فایل صوتی
خارج فقه محیط زیست
(فقه آب)
دوشنبه ۲۸/ آبان/ ۱۴۰۳
👈 نقد دیدگاه صاحب جواهر در حمل بر کراهت
نقد اول: قاعده بودن حمل بر کراهت و نبود قاعده آن در مقام
نقد دوم: تعدد موضوعی در دو سنخ روایات مقام
1_15235153064.docx
19.4K
مکتوب
خارج فقه محیط زیست
(فقه آب)
دوشنبه ۲۸/ آبان/ ۱۴۰۳
👈 نقد دیدگاه صاحب جواهر در حمل بر کراهت
نقد اول: قاعده بودن حمل بر کراهت و نبود قاعده آن در مقام
نقد دوم: تعدد موضوعی در دو سنخ روایات مقام
💥 منهجية الإمام الخميني (2)
بعد ذكر العنصرين السابقين، ننتقل إلى رؤية الإمام الخميني (قدّس سرّه)، فقد بلغ الإمام في ثلاث ميادين رئيسية من فلسفة الشريعة، رؤى مبتكرة ونظريات متفرّدة.
أولًا: الشريعة والإنسان الاجتماعي
الإمام الخميني يُعدّ عَلَمًا بارزًا في الفكر الاجتهادي المعاصر، إذ قدّم حول الشريعة تصورًا رفيعًا بوصفها نظامًا يُعنى بالعقلاء، أي الإنسان في سياقه الاجتماعي المتكامل.
ومن رحم هذا التصور، ولدت نظريته حول "الاعتبارات"، التي تميّزت بعمق منهجي وأصالة فكرية نادرة، حتى برزت كإضافة نوعية لا مثيل لها في علم الأصول.
يرى الإمام أن الشريعة متداخلة مع طبيعة اعتبارات الإنسان الاجتماعي، فلا تنفصل عنها، مما يجعل نظريته تتجاوز الفهم التقليدي الذي يعتبر الاعتبارات العقلائية مجرّد أعراف تُتّبع أحيانًا وتُهمل أحيانًا أخرى. بل يذهب إلى أن الشارع قد تبنّى تلك الاعتبارات كمنهجٍ تشريعي ولغةٍ قانونية تُنسَج وفق مبادئ الشريعة وغاياتها.
ومن هذه الرؤية، انبثقت قواعد فريدة لم يُسبق إليها الإمام، أو أضفى عليها بُعدًا جديدًا، يمكن تلخيصها في ما يلي:
1. أصل استقلال العقلاء في إنشاء الاعتبارات
الاعتبارات العقلائية تنبع من صميم المجتمع، أداةً لتنظيم شؤونه، ولا يتدخل الشارع في أصل هذه الاعتبارات، بل قد يُنظّم آثارها أو يُلغي بعضها وفق مقاصده السامية.
2. أصل عدم تخطئة الشارع للعقلاء في اعتباراتهم
خذ الملكية مثالًا، فهي اعتبار عقلائي لا وجود له خارج الإطار الاعتباري. لذا، لا يمكن للشارع أن يخطئ العقلاء في تعريفهم للملكية، إذ لا مجال للتخطئة إلا في ما له وجود حقيقي يمكن قياسه بالصواب أو الخطأ.
3. أصل تبعية الشارع للاعتبارات العقلائية
مرة أخرى، نجد الملكية مثالًا واضحًا. ليست الملكية من الحقائق الشرعية التي يُنشئها الشارع، بل هي اعتبار عقلائي نشأ من حاجة البشر لتنظيم العلاقات. وهكذا، يتّبع الشارع العقلاء في هذا الاعتبار وسائر الاعتبارات، دون أن يستقل عنها بإنشاء جديد.
4. أصل تدخل الشارع في إسقاط الآثار دون إلغاء الاعتبار
للشارع أن يمنع ترتيب بعض الآثار على الاعتبارات العقلائية، سواء في الحكم الوضعي أو التكليفي، دون أن يُلغي أصل الاعتبار ذاته. وحتى لو أسقط جميع الآثار، يبقى الاعتبار قائمًا ما لم تُلغَ طبيعته الاعتبارية.
5. أصل عدم وجود حكم مماثل مجعول في الإمضاء الشرعي للأمارات العقلائية
إمضاء الشارع للأمارات لا يعني إنشاء حكم جديد، بل ترك الأمور على ما هي عليه في تعامل العقلاء، دون تدخل تشريعي.
6. أصل قانونية الخطابات الشرعية
خطابات الشريعة قانونية لا انحلالية، فهي وحدة شاملة تنطلق من رؤية واحدة، تتوجه إلى المجتمع ككيان متكامل.
7. نظرية الوعاء الاعتباري
من هذه النظرية أطل الإمام برؤية جديدة، حيث يظهر الشارع كما يظهر العقلاء، يعمل بالاعتبارات وفق حاجات التشريع.
8. قاعدة تزاحم المقتضيات
الإمام يرى أن التزاحم يقع في تكاليف موجهة لمكلّف واحد، خلافًا لتوسيع قاعدة الحكومة في كثير من الحالات.
9. أصل أن الامتنان في الأحكام قد تمت للأمة
يرى الإمام أن الامتنان لا ينظر إلى الفرد بل إلى الأمة، فهو نعمة شاملة تتسع لجميع الناس، تُراعى فيها مصالح المجتمع بأسره. كما قال:
"إنّ الأحكام الامتنانيّة إنّما هي امتنانيّة بحسب القانون الكلّي، ولا يُنظر فيها إلى آحاد المكلّفين. فإذا كان في جعل قانون امتنان على الأُمّة، كان الحكم امتنانيّاً، وإن فرضت مصادمته في موردٍ لشخص أو أشخاص."
هذه الرؤى تظل مفتوحةً أمام علماء الأصول والباحثين لاستكمال دراستها، والتعمق في تفصيلها، وتطوير آفاقها.
هناك تتمة
1_15368064210.docx
25.6K
مكتوب
روش شناسی اجتهاد امام خمینی (ره) در عرصه فقه اجتماعی؛ با تاکید بر رساله تقیه.
تاريخ ارائه: دوشنبه ۵ آذر
ويرايش شده
💥 تقرير عن اتجاهات ثلاثة في بناء القوانين على الفقه
[خلاصة الكلمة الملقاة في جلسة علمية في تونس شارك فيها عدد من المفكرين والحقوقيين].
ظهرت ثلاثة اتجاهات رئيسية في بناء القوانين استنادًا إلى الفقه:
⬅️ الاتجاه الأول:
يتبنى هذا الاتجاه بناءَ القانون في مجال الأحوال الشخصية استنادًا إلى أحكام الفقه الإسلامي، فيُصاغ القانون في مجالات الزواج، والطلاق، والميراث و...، وفقًا لقواعد الفقه. ويقتصر هذا التوجه على مجال محدد، ولا يشمل جميع ميادين القانون.
⬅️ الاتجاه الثاني:
يعتمد هذا الاتجاه على العودة الشاملة إلى الفقه ليكون المصدر الأساسي للتشريع في كافة المجالات الحقوقية، بحيث يتم تنظيم القوانين والأنظمة وفقًا لأحكام الشريعة في مختلف الميادين القانونية، سواء كانت عامة أو خاصة.
⬅️ الاتجاه الثالث:
يقوم هذا الاتجاه على فكرة بناء نظام الحوكمة في المجالات الحقوقية وفقًا للفقه، بحيث يمتد تطبيق الفقه ليشمل ليس فقط القواعد القانونية العامة والكلية، بل أيضًا السياسات العامة وآليات التنفيذ ومراحلها ونظم الإدارة في مجال الحكامة.
يُعنى هذا الاتجاه بالتوجيه العام والجوهرية القانونية، وليس التنفيذيات المتخصصة التي يمكن أن تُستمد من مجالات أخرى، مثل التخصصات القانونية أو العلمية.
✅ توضيح الاختلاف بين الاتجاهات:
الاختلاف الأساسي بين هذه الاتجاهات يكمن في نطاق تأثير الفقه على القانون. ففي الاتجاه الأول، يقتصر تأثير الفقه على المجالات الشخصية، بينما في الاتجاه الثاني يمتد ليشمل كافة المجالات الحقوقية. أما في الاتجاه الثالث، فإن الأمر يتعدى حتى القوانين العامة ليشمل الحوكمة ككل، بما في ذلك السياسات العامة والإدارة.
✅ من المهم أن ندرك:
أن التركيز على الاجتهاد في الفقه لا يعني نفي الحاجة إلى علم الحقوق. فبينما الفقه يشكّل نظامًا حقوقيًا خاصًا، يجب أن نعلم أن كل نظام حقوقي يحتاج إلى الاستفادة من علوم الحقوق من أجل تحديد القواعد والأدوات التي تحكم العلاقات الحقوقية، بما في ذلك الأدبيات الحقوقية التي تُسهم في صياغة القوانين.
هناك فرق بين علم الحقوق والنظام الحقوقي، والذي ينافسه الفقه كنظام حقوقي، هو سائر النظم الحقوقية، مثل:
- النظام القانوني المدني (Civil Law System):
والذي يعتمد على التشريعات المدونة والكودات القانونية، ويُطبق في العديد من الدول الأوروبية واللاتينية.
- النظام القانوني العام (Common Law System):
يعتمد على السوابق القضائية وقرارات المحاكم، ويُستخدم في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
- النظام القانوني العرفي (Customary Law System):
والذي يعتمد على التقاليد والعادات المحلية، ويُستخدم في بعض المجتمعات القبلية والبلدان النامية.
- النظام القانوني الاشتراكي (Socialist Law System):
والذي يعتمد على المبادئ الماركسية السوسيالية ويُطبق في الدول ذات الأنظمة الاشتراكية كالصين سابقًا.
- النظام القانوني المختلط (Mixed Legal System):
والذي هو مزيج من عدة نظم قانونية مثل المدنية والعامة والإسلامية، ويُستخدم في دول مثل لبنان والهند.
ومع ذلك، تظل الحاجة إلى المعرفة القانونية قائمة لضبط أطر العلاقات الحقوقية عبر جميع الأنظمة.
✅ شروط تحقيق الاتجاه الثالث:
هذا الاتجاه يقتضي اجتهادًا فقهيًا راسخًا ومنهجًا منظوميًا دقيقًا، إذ إن إهمال الاجتهاد قد يؤدي إلى تهميش هذه القضايا أو إحالتها إلى أنظمة قانونية مغايرة، مما يُضعف حضور الفقه ويُفقده فاعليته.
لإنجاح هذا الاتجاه، تبرز الحاجة إلى اجتهاد منهجي متعدد الطبقات، مستمر ومواكب لتحولات العصر. ولتحقيق ذلك، يمكن تلخيص المتطلبات الأساسية في ثلاث خطوات:
⬅️ رؤية فلسفية عميقة للشريعة
يجب أن تتأسس هذه الرؤية على فهم شامل لسياسات الشريعة وروحها ومقاصدها وأولوياتها، بحيث يصبح الفقه دليلًا مرنًا يهدي السبل، لا قيودًا تُثقل حركة التطور.
⬅️ الاعتماد على خبرات متعددة التخصصات
يتطلب ذلك إشراك علماء من مجالات مختلفة، كعلم الحقوق وعلم الاجتماع، لفهم الأبعاد المتنوعة للموضوع بأدوات علمية دقيقة، تُزيل اللبس وتُرسخ الفهم.
⬅️ بناء نظرية فقهية متكاملة
تقوم هذه النظرية على نصوص الشرع، لكنها تُرتب الأحكام في سياق قانوني مُحكم، يراعي تعقيدات الواقع المعاصر.
✅ مثال تطبيقي:
من أبرز الأمثلة على النظريات الفقهية العملية، نظرية التوازن التي صاغها الشهيد محمد باقر الصدر. تعالج هذه النظرية الفجوات الطبقية وتحقق العدالة الاقتصادية من خلال قواعد مستمدة من القرآن والسنة، مما يُسهم في صياغة قوانين حديثة للضرائب، والإسكان، والتنمية الاقتصادية.
💥 كيف يمكن للفقه أن يدعم عملية التقنين؟
[عقد بيت الحكمة في تونس ندوة تحت عنوان:
"الفقه الإسلامي والقانون الوضعي: أية علاقة؟
وفيما يلي جزء من الكلمة الملقاة فيها مع إدخال بعض التعديلات والإضافة لزيادة الترابط والعمق].
لتحقيق فقهٍ داعمٍ للتقنين بصورةٍ علميّةٍ متكاملة، لا بدّ أن يستند الاجتهاد إلى ركيزتين جوهريتين:
الأولى: فلسفة الشريعة.
الثانية: الإدراك العميق للوقائع.
⬅️ أولاً: فلسفة الشريعة
فلسفة الشريعة تختلف جوهريًا عن الفقه ذاته؛ فالفقه يُعنى بعملية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لمعالجة القضايا، بينما فلسفة الشريعة تبحث في طبيعة الشريعة نفسها، بما تحمله من غايات، وبنية، وروح.
للتوضيح أكثر، يمكن القول إنّ هناك مقولتين أساسيتين:
- فقه الشريعة
- فلسفة الشريعة
فقه الشريعة هو ما نمارسه اليوم بصورةٍ جادّةٍ وموسّعة، حيث نعتمد على القواعد الأصولية لاستخلاص الأحكام الشرعية.
فلسفة الشريعة، تحاول استكشاف الأبعاد العميقة للشريعة، بما يشمل جغرافيتها، خصائصها، غاياتها، روحها، كيفية تحركها نحو أهدافها (سياساتها) وأولوياتها.
هي التي تكشف أن الشريعة حيال قضية مهمة هل تسير بوتيرةٍ سريعةٍ أم بطيئة؟ هل تتقدّم بأولويات واضحة أم بدون ترتيبٍ محدد؟
فلسفة الشريعة تسعى إلى استكشاف الأبعاد العميقة للشريعة، بما يشمل جغرافيتها التنظيمية، وخصائصها التشريعية، ويتضمن غاياتها السامية، وروحها المتجددة، وكيفية تحركها نحو أهدافها المنشودة، من سياساتها المرسومة إلى أولوياتها المحسوبة.
هي التي تكشف لنا عند كل مفصلٍ، هل تتحرك الشريعة بسرعةٍ خاطفةٍ أم بهدوءٍ متأنٍ؟ هل تُقدّم أولوياتٍ واضحةً أم تسير في خطوطٍ متشابكةٍ؟ وهل تختار مسارًا تدريجيًا يبدأ من الأدنى ليصعد نحو الأعلى، أم تمضي مباشرةً نحو القمة دون تمهيدٍ؟
كما تتساءل فلسفة الشريعة: هل تسعى الشريعة في مواجهة قضية اجتماعية مهمة إلى حلولٍ كليةٍ شاملةٍ أم جزئيةٍ مرحليةٍ؟ وهل تبدأ مع الفرد لتصل إلى الجماعة أم تراها تعالج الأمور بعينٍ على الفرد وأخرى على الكيان الأكبر؟
وتبحث أيضًا في مرونة الشريعة أمام التغيرات: هل تختار التأقلم المرن أم تظل ثابتةً على مبادئها؟ هل توسع مجال الاجتهاد أمام المستجدات أم تحافظ على ضوابطٍ صارمةٍ في قضاياها الحساسة؟
وفوق ذلك، تنير فلسفة الشريعة سبيل فهمنا لتفاعلاتها، فتسأل: هل تحمل الشريعة في خطابها أسلوبًا يركز على الإقناع اللين أم الإلزام الصارم؟ هل تُقدّم الأمور بصراحةٍ باديةٍ أم تُبقي بعضها في طيّ الحكمة المستترة؟ وهل تفضل التدرج الحكيم أم الحسم المباشر؟
بمثل هذا التحليل المسهب، تتحول فلسفة الشريعة إلى بوصلةٍ مرشدةٍ، تزود الاجتهاد بطاقات كي يلبي بالحاجات.
هذا النهج يجعل الفقه في خدمة التقنين أكثر ذكاءً ووعيًا، ويُمكّن المقنن من صياغة قوانين تراعي الغايات العليا للشريعة، وتتناسب مع الواقع الاجتماعي، مع تحقيق توازنٍ بين الثبات والمرونة، وبين النصوص الحرفية والغايات الكبرى.
وهكذا نفهم أن فلسفة الشريعة تُقدّم للفقيه إطارًا فكريًا متكاملًا يُقوّم عملية الاجتهاد، ويجعله أكثر قربًا من إرادة الشارع وأقل عرضةً للأهواء الشخصية أو الانطباعات الذاتية. من خلال هذا الفهم الفلسفي، يصبح الاجتهاد قادرًا على تقديم استنباطات شرعية، هي:
- أكثر انسجامًا مع العقلانية.
- أكثر مرونة في مواجهة تحديات العصر.
- أكثر فائدة لإيجاد النظم القانوني والاجتماعي.
أما الاجتهاد الذي يفتقر إلى هذا العمق الفلسفي، فقد ينتهي إلى نتائج متأثرة بالذهنية الفردية التي قد تكون غير منقحة أو غير متناسبة مع واقع الشريعة وغاياتها الكبرى.
⬅️ ثانيًا: فهم الوقائع والديناميكيات الاجتماعية
إلى جانب فلسفة الشريعة، يحتاج الاجتهاد الفقهي إلى وعيٍ دقيقٍ بالوقائع الميدانية التي يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:
أ) المعطيات الحقوقية
الإدراك العميق لهذه المعطيات يُمكّن الفقيه من فهم الإطار الحقوقي الذي تتحرك فيه القضايا الشرعية. هذا الوعي يساعد على تقديم حلول فقهية، هي:
- منسجمة مع الواقع الحقوقي.
- متوافقة مع طبيعة العلاقات الحقوقة.
ب) التحليلات الاجتماعية
تشمل دراسة واقع المجتمع من حيث ثقافته، اقتصاده، سياساته، وعاداته، إضافة إلى تحدياته المختلفة. فهم هذه التحليلات يُمكّن الفقيه من إدراك السياق الاجتماعي للقضايا الفقهية، مما يتيح له استنباط حلولٍ شرعية، هي:
- تعبر عن الشريعة.
- تستجيب لحاجات الواقع ومتغيراته.
إذا تحدثنا عن حاجة الاجتهاد إلى فلسفة الشريعة، وعن ضرورته في ربطه بالواقعيات الاجتماعية وأبعادها الحقوقية، فلسنا بصدد إنكار أو تضعيف الفكرة الرائجة القائلة بأن الاجتهاد هو فنٌ دقيق، ومهارةٌ رفيعة، تقوم على تطبيق القواعد الأصولية، واستنباط الأحكام الشرعية، واستخدام عناصر الاجتهاد الأخرى.